للمزيد من القصص

نير يسود - "في أعلى الدرج الهابط , بين مسغاف ورام الله"

مسغاف هو مكان ريفي يطل على أنحاء جنوب لبنان، وعلى جبل الشيخ وينبسط في أسفله سهل الحولة. المنظر الطبيعي مدهش. وأحيانا تم التشويش على الهدوء.
نشأت هناك في السبعينيات والثمانينيات في واقع لم تكن فيه الحرب شيئا غريبا.
هوجم الكيبوتس مرات كثيرة بوابل من صواريخ الكاتيوشا التي أطلقتها نحونا قوات م.ت.ف من قواعدها في جنوبي لبنان وجرينا، أحيانا في الهزيع الآخر من الليل وقد قُضت مضاجعنا حُفاة الأقدام، نغطي أنفسنا بلحاف الى الملا جيء.
عندما كنت في الصف الثاني، دخل الجيش الإسرائيلي لبنان لأول مرة (عملية الليطاني)، وعوض ذلك دخلنا تحت الأرض لمدة أسبوعين، تعلمنا فيهما وأكلنا، ولعبنا ونمنا في الملجأ بغير إذن في أن نُخرج أنوفنا منه.
لم يتغير ذلك الواقع المجنون.
في عيد فصح ثانٍ، في السابع من نيسان 1980، دخل الكيبوتس خمسة من أفراد “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين” واستولوا على حضانة الأطفال. قتلوا فورا مع الاستيلاء سامي شنيه، أمين سر الكيبوتس والطفل إيال غلوسكا. بعد ساعات طويلة وبعد معركة سقط فيها مقاتل من دورية غولاني، هو إلداد سفرير وجُرح فيها كثيرون، نجح الجيش الإسرائيلي في إنقاذ الرهائن. حل محل الإحساس بأن مسغاف – عام مكان لا يُخترق، إحساس متصل. بعد أكثر من سنة من العملية في حضانة الأطفال، حدثت كارثة أخرى، في عائلتي هذه المرة.
في ساعات الصباح المبكرة في العشرين من تموز 1981، في أحد أيام ما سُمي بعد ذلك حرب الأيام العشرة، بعد مكوث لبضعة أيام في الملجأ، خرجت أمي لتغتسل استعدادا لخروجها الى العمل. لقد بلغها وابل من صواريخ الكاتيوشا أطلقته في تلك الساعة قوات م.ت.ف من لبنان نحو مسغاف – عام عند مدخل بيتنا، قبل دخولها بخطوة واحدة فقط.
اهتز الملجأ. تفصل أمتار معدودة بين الملجأ الذي نمت فيه وبين غرفة والدي. نامت أمي معي في الملجأ وقررت لسبب ما أن عليها أن تنهض للعمل اليوم. كان الكيبوتس مشلولا كله تقريبا، وخرج القليل فقط للقيام بالمهمات الضرورية.
لم تكن من أولئك القليل ومع ذلك خرجت.
لم يمضِ وقت طويل حتى جمعنا والدنا، نحن الإخوة، في أسفل غرفة الدرج للملجأ وقال: “أمكم لم تعد موجودة”.
لا أذكر أنني بكيت، ربما لأنه لا يجوز لابن الكيبوتس أن يبكي. وربما لأن الولد الذي لم يتجاوز الحادية عشرة لا يفهم حقا ما يحاول أبوه أن يقول له.
ربما لا أفهم الى اليوم. لم يثبت أبي. وفي آذار 1993 مضى هو أيضا.
العجيب أن الشعور بالانتقام لم يكن جزءا مني. حاولت على نحو ما، بعد سنين، إدخال المنطق في الفقدان. افترض أن هذه المحاولة ساعدتني في البقاء وأنها المُحرك الذي يدفعني الى أعمال سأتحدث عنها هنا.
بعد أربعة أيام من مقتل أمي تم إحراز وقف إطلاق نار في الشمال. في تفاوض غير مباشر بين حكومة إسرائيل وم.ت.ف تم توقيع اتفاق. تم الحفاظ على الهدوء أكثر من عشرة أشهر بقليل. في بداية حزيران 1982 أطلق مسلح من منظمة أبو نضال (أحد الذين اعتزلوا م.ت.ف وبغيض الى عرفات)، النار على سفير إسرائيل في بريطانيا، شلومو أرغوف وجرحه جرحا بالغا. وحيال ذلك استقر رأي حكومة إسرائيل على غزو لبنان في قصد الى “القضاء على أوكار المخربين”. كلف هذا التبجح الكثير من الدماء.
مرت عشرون سنة، وما يزال عدد من اللاعبين في الملعب، لكن التبجح ما يزال يقودنا والدم المسفوح ما يزال يسيل.
بعد أن اندلعت انتفاضة الأقصى، انضممت الى “منتدى العائلات الثكلى الإسرائيلي – الفلسطيني من اجل السلام”. يتم التعبير عن جُل نشاط “منتدى العائلات” في المجال التربوي والتوجيهي – الإعلامي. يقوم أناس مختلفون من “المنتدى” بالمحاضرة في مدارس يُشركون فيها الطلاب بالفقدان الذي جربوه والاستنتاجات منه. يظل الطلاب دهشين. لم يروا قط فلسطينيا وإسرائيليا يجلسان معا ويتحدثان عن ألم مشترك وعن إمكانية الحصول على مصالحة.
في المجال التوجيهي – الإعلامي أيضا، تهدف نشاطات “المنتدى” الى إثارة التفكير في الجمهور والى أن يُعرض لحجم المأساة المشتركة بين الشعبين في هذه الأرض النازفة، العزيزة عليهما.
ستُخصص السطور القادمة لنشاط واحد كهذا: التبرع بدم مشترك فلسطيني – إسرائيلي، حدث منذ زمن غير بعيد. في صبيحة الثامن من تشرين الأول وصل عدد من الفلسطينيين من أعضاء المنتدى الى محطة نجمة داود الحمراء في القدس وتبرعوا بالدم هناك. وفي ساعة الظهيرة وصلنا نحن عددا من أعضاء المنتدى الإسرائيليين، الى المستشفى الحكومي في رام الله لنتبرع نحن أيضا بالدم. كان هدف النشاط أن نقول للشعبين وللقادة أننا نقتسم دما واحدا ومستقبلا واحدا. في حاجز قلنديا، جنوبي رام الله، نجح أكثر أعضاء المنتدى في الاندماج في حركة الفلسطينيين الذين يجتازون الحدود سيرا على الأقدام. بقيت أنا واسحق فرانكنتال، رئيس المنتدى في الخلف. بحثنا وقد رُفض أن نستمر في طريقنا عن ممر آخر نجتاز الحدود عنده.
نقلتنا سيارة أجرة محلية، سافرت بخبرة كثيرة للانطباع في شوارع رام الله الضيقة البائسة، الى المستشفى المحلي. كان التبرع بالدم قد انقضى وانفصلنا عن مستضيفينا بكلمات متأثرة، وهم أفراد الفريق الطبي، في طريقنا الى المقاطعة.
من لم يكن هناك، سيصعب عليه أن يشعر بما شعرنا به جميعا. المنطقة مدمرة كلها تقريبا والشعور هو أننا وصلنا الى مكان بعد زمن قصير من حدوث هزة أرضية شديدة فيه. ما بقي هو مبنى ما يزال جزء منه واقفا على حاله يزدحم فيه عرفات ورجاله، أما جزؤه الآخر فمدمر في أكثره. إحساس صعب جدا. في جزء آخر من المقاطعة تتم أعمال نقل الأنقاض وبناء من جديد لكن المكان بعيد بُعدا كبيرا عن اليوم الذي سيُعاد فيه بناؤه.
وقفت السيارات وغطت أرجلنا طبقة كثيفة من الغبار نتيجة الهدم الذي لا يمكن فهمه، نحو دخول مبنى الإدارة الفلسطينية. استقبلنا أفراد شرطة مسلحون بينوا لنا بأدب الطريق، المتجه نحو أعلى الدرج، الى المكتب الموجود في الطابق الثاني. بعد انقضاء جلسة المجلس الوزاري الفلسطيني المصغر استقبلنا عرفات في مكتبه الضيق المتواضع.
تقدمنا منه واحدا واحدا لمصافحته.
حان دوري. أنا أصافح قاتل أمي، تسيبي يسود، نفس الرجل الذي يتصل صلة وثيقة بالمأساة التي أصابت عائلتي وتوفي في أثنائها والدي أيضا بعد ذلك بعدة سنين، وأقول له عددا من كلمات التحية بالعربية.
بعد سنين من موت أمي، في كتاب احتوى على وثائق فلسطينية مغتنمة، تم الحصول عليها في أثناء حرب لبنان، وجدت بين سائر الوثائق أيضا أمر إطلاق النار على مسغاف – عام في ذلك الصباح اللعين في العشرين من تموز الذي قُتلت فيه بإصابة مباشرة بصاروخ كاتيوشا. كان القائد الأعلى للقوات الفلسطينية المسلحة، ياسر عرفات قد وقع على الأمر.
كان مهما لي أن التقي عرفات. فمن جهة لا أطمح الى الانتقام، لكن إمكانية أن أستطيع الصفح أو نسيان كارثتنا العائلية ليست قائمة، ومن جهة ثانية أشعر بأن من الواجب علينا (مهما تبلغ الصعوبة ذلك) أن نفصل عن الخطاب العام مشاعر العداء المتبادلة، التي نشأت في أعقاب الجرائم التي يُجريها بعضنا على بعض، في قصد الى منع ثكل مشترك آخر وأن نتقدم الى المصالحة.
اعتقد أنه توجد أهمية كبيرة للقاء قائد الشعب الفلسطيني.
المسار يمر عن طريق هذا الرجل وأبناء شعبه، فعن طريقه يمكن إخراج هذه المنطقة من الحلقة الدموية التي لا داعي إليها والوحشية التي نقوم فيها جميعا، فلسطينيين وإسرائيليين معا. إن رفض أكثر الجمهور في إسرائيل وحكومته التمسك بهذا المسار، أو وهو أسوأ من ذلك، تجاهل الحقوق الشرعية الأساسية للشعب الفلسطيني في أرضه – تقود نتائجه، وليحفظنا الله منها، الى أننا لسنا لا نستطيع فقط التسلق للوصول الى الهدوء المأمول بل أننا نخطوا خطوات مضمونة نحو هاوية عميقة. القبور الجديدة التي تضاف في كل يوم، عن جانبي الحدود، هي شهادة على ذلك تثير القشعريرة.
منتدانا، “منتدى العائلات الثكلى الإسرائيلي – الفلسطيني من اجل السلام”، نصب له غاية هي أن يحاول تغيير هذا الواقع وأن يقيم أمام المجتمع الإسرائيلي الثمن الذي دفعته وستدفعه عائلات كثيرة، كثيرة جدا، في إسرائيل وفي فلسطين، فقط لأنه لا يوجد سلام.

  • Tzipi02
  • Tzipi04
  • Tzipi03
  • Tzipi01
  • Nir01
  • Nir03
  • Nir02